كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الصَّلَاةُ، وَالذِّكْرُ، وَالدُّعَاءُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الصَّلَاةِ سَعْيًا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَضَمِّنَةً لِذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ خَارِجَ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا دُمْتَ تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْتَ فِي السُّوقِ.
وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ قَالُوا: إنَّ مَجَالِسَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ مَجَالِسُ الذِّكْرِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يَعْرِفَ مَرَاتِبَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا لَا يَبْغُضُهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَبْغُضُهَا وَيَسْخَطُهَا، وَمَا نَهَى عَنْهُ كَانَ لِتَضَمُّنِهِ مَا يَبْغُضُهُ، وَيَسْخَطُهُ، وَمَنَعَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصُرُ نَظَرُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقُلُوبِ

الصفحة 468