كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَالنُّفُوسِ وَمَفَاسِدِهَا، وَمَا يَنْفَعُهَا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَا يَضُرُّهَا مِنْ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] . فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَرَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا مَا عَادَ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ.
وَغَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إذَا تَعَدَّى ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ مِثْلَ أَصْحَابِ رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ، وَمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِمَّا ظَنُّوهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَنْتَهُونَ إلَيْهِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرٍ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَقَوْمٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّارِعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ مِنْ الْحُكْمِ.
وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ مَا تَضَمَّنَ حِفْظَ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْفُرُوجِ، وَالْعُقُولِ، وَالدَّيْنِ الظَّاهِرِ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ.
وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ مَا

الصفحة 469