كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

لِثَمَرِهَا بَلْ نِسْبَةُ كِرَاءِ الشَّجَرِ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ كَنِسْبَةِ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْمُزَارَعَةِ، هَذَا مُعَامَلَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ، وَهَذَا كِرَاءٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ قَدْ سَاوَتْ الْمَنَافِعَ فِي الْوَقْتِ لِأَصْلِهَا، وَفِي التَّبَرُّعَاتِ بِهَا، وَفِي الْمُشَارَكَةِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا وَفِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا، فَكَذَلِكَ يُسَاوِيهَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى اسْتِفَادَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ عَدِيمَ النَّظِيرِ، بِدَلِيلِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي الْإِثْمَارِ كَمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْإِنْبَاتِ، وَمَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا فَقَدْ تُعْدَمُ الثَّمَرَةُ، وَقَدْ تُنْقَضُ، فَإِنَّ مِنْ الشَّجَرِ مَا لَوْ لَمْ يُخْدَمْ لَمْ يُثْمِرْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى عَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إجَارَتُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ لَا إجَارَةً لِلشَّجَرِ، وَيَكُونُ كَمَنْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِلَا عَمَلِ أَحَدٍ أَصْلًا قَبْلَ وُجُودِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُثْمِرُ قَلِيلًا وَقَدْ يُثْمِرُ كَثِيرًا يُقَالُ وَمِثْلُهُ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهَا قَدْ تُنْبِتُ قَلِيلًا وَقَدْ تُنْبِتُ كَثِيرًا، وَإِنْ قِيلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ؛ قِيلَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِثْمَارِ لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارِجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ، إنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ السُّكْنَى، وَإِنْ وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ؛ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَحْصُلُ، لَيْسَ كَاكْتِرَاءِ السُّكْنَى أَوْ لِلْبِنَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ نَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِجَعْلِ الْأَعْيَانِ فِيهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا يَزِيدُهُ الْبَحْثُ عَنْهُ إلَّا وُضُوحًا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زُهُوِّهَا؛ وَبَيْعُ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ، لَيْسَ هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ إكْرَاءَهَا لِمَنْ يَجْعَلُ ثَمَرَتَهَا وَزَرْعَهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجَدَادِ؛ كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ

الصفحة 47