كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، لَكِنَّ الْمَيْسِرَ تُطْلَبُ بِهِ الْمُلَاعَبَةُ وَالْمُغَالَبَةُ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِنْسَانِ مَعَ فَسَادِ مَالِهِ لَا لِفَسَادِ مَالِهِ، مِثْلَ مَا فِيهِ مِنْ الصُّدُودِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَكُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِيهِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَفِيهِ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ مِنْ الرَّبَّا وَغَيْره مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ. تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْسِرَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ، وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ. وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ؛ وَهِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَكُلٌّ مِنْ الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ، فَيُنْهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا، وَيُنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَيُوقِعُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِنْ الرِّبَا، وَلِهَذَا حَرُمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا وَلَوْ كَانَ الشَّارِبُ يَتَدَاوَى بِهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَحَرَّمَ بَيْعَهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا لَا يَسُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَلَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِنَابِ، فَهَكَذَا الْمَيْسِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا وَعَنْ هَذَا، وَالْمُعِينُ عَلَى الْمَيْسِرِ كَالْمُعِينِ عَلَى الْخَمْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَكَمَا أَنَّ الْخَمْرَ تَحْرُمُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهَا بِبَيْعٍ، أَوْ عَصْرٍ، أَوْ سَقْيٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَيْسِرِ، كَبَائِعِ آلَاتِهِ، وَالْمُؤَجِّرِ لَهَا، وَالْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُعِينُ أَحَدَهُمَا، بَلْ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيْسِرِ كَالْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» .
وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ

الصفحة 472