كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الْحَصَادِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْفِيَةِ وَمُؤْنَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَنْ خَدَمَهَا حَتَّى يُثْمِرَ فَهُوَ كَمَكْرِي الْأَرْضِ لِمَنْ يَخْدُمُهَا حَتَّى تُنْبِتَ، لَيْسَ عَلَى الْمُكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ.
لَكِنْ يُقَالُ: طَرَدَ هَذَا أَنْ يَجُوزَ إكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَحْتَلِبُ لَبَنَهَا.
قِيلَ: إنْ جَوَّزْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَاشِيَةَ لِمَنْ يَعْلِفَهَا وَيَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ.
وَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ إجَارَتُهَا لِاخْتِلَافِ لَبَنِهَا كَمَا جَازَ إجَارَةُ الظِّئْرِ؟
قِيلَ: نَظِيرُ إجَارَةِ الظِّئْرِ أَنْ يُرْضِعَ بِعَمَلِ صَاحِبِهَا لِلْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ هِيَ تُرْضِعُ الطِّفْلَ، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُوَفِّي الْمَنْفَعَةَ فَنَظِيرُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ هُوَ الَّذِي يُوفِي مَنْفَعَةَ الْإِرْضَاعِ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأْجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ؛ لَأَنْ تُرْضِعَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْتَلِبُ اللَّبَنَ أَوْ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ فَهَذَا مُشْتَرِي اللَّبَنِ لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةٍ وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَلٍ، وَهُوَ شَبِيهٌ لِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ وَاحْتِلَابُهُ كَاقْتِطَافِهَا، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَا تُبَاعُ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لَأَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَحْتَلِبَ لَبَنَهَا، فَهَذَا نَظِيرُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ.

فَصْلٌ
هَذَا إذَا اكْتَرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ أَوْ الشَّجَرَ وَحْدَهَا لَأَنْ يَخْدُمَهَا، وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكْرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى فَهَا هُنَا لَا يَجِيءُ إلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هُوَ السُّكْنَى.
وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ، كَمَا يُقَدَّمُ مِنْ النَّظَائِرِ، وَهَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ كَمَا يَجْرِي فِي حَوَائِطِ دِمَشْقَ، فَإِنَّ الْبُسْتَانَ يُكْتَرَى فِي الْمُدَّةِ الصَّيْفِيَّةِ لِلسُّكْنَى فِيهِ وَأُخِذَ ثَمَرُهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِ الثَّمَرَةِ أَصْلًا، بَلْ الْعَمَلُ عَلَى الْمُكْرِي الْمُضَمَّنِ.

الصفحة 48