كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ هُوَ إجَارَةٌ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ تَوْفِيَةِ الثَّمَرِ هُنَا عَلَى الْمُضَمَّنِ وَبِعَمَلِهِ يَصِيرُ ثَمَرًا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُثْمِرًا بِعَمَلِ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ ضَمَانًا وَلَيْسَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَا إجَارَةً مَحْضَةً، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الِالْتِزَامِ الْعَامِّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا سَمَّى الْفُقَهَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَمَانًا أَيْضًا لَكِنَّ ذَاكَ يُسَمَّى إجَارَةً، وَهَذَا إذَا سُمِّيَ إجَارَةً، أَوْ اكْتِرَاءً فَلَأَنْ نُسَمِّيَهُ إجَارَةً أَوْضَحُ أَوْ اكْتِرَاءً، وَفِيهِ بَيْعٌ أَيْضًا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ جَدَادِ الثَّمَرَةِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ عِنَبًا أَوْ نَخْلًا، وَيُرِيدَ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ.
فَهَذَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ هُنَا لِأَجْلِ الثَّمَرِ، فَلَأَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ تَابِعًا لَهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجَارَتِهَا إلَّا إذَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً احْتَاجَ إلَى اسْتِئْجَارِهَا، وَاحْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ لِلسُّكْنَى أَنْ يَدَعَ غَيْرَهُ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ، وَلَا يَتِمُّ غَرَضُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَرَةٌ يَأْكُلُهَا كَانَ مَقْصُودُهُ الِانْتِفَاعَ بِالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْأَكْلَ مِنْ الثَّمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ السُّكْنَى، وَإِنَّمَا الشَّجَرُ قَلِيلَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ نَخَلَاتٌ، أَوْ عَرِيشُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَالْجَوَازُ هُنَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقِيَاسُ أَكْثَرِ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَعَ السَّكَنِ التِّجَارَةُ فِي الثَّمَرِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَالْمَنْعُ هُنَا أَوْجَهُ مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ السُّكْنَى وَالْأَكْلَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ قَصَدَ السُّكْنَى وَالشُّرْبَ مِنْ الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَرُ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ فَهُنَا الْجَوَازُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَدُونَ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَأْثُورِ عَنْ السَّلَفِ فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْرُثَ لَهُ الْمُضَمَّنَ مَعْنَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ

الصفحة 49