كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

رَجُلٍ لِلزَّرْعِ، عَلَى أَنْ يَحْرُثَهَا الْمُؤَجِّرُ فَقَدْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَهُ وَاسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ.
وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَكْرَى مِنْهُ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَجِّرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ، وَهَذَا إجَارَةُ عَيْنٍ وَإِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَيَكُونُ قَدْ اسْتَأْجَرَ عَيْنَيْنِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ السُّكْنَى مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ، وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ.
فَهَذَا عِنْدَ اللَّيْثِ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كُلَّمَا صَلَحَتْ ثَمَرَةٌ يُقَسِّطُ عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّمَرِ.
وَهَذَا مِنْ الْحِيَلِ الْبَارِزَةِ الَّتِي لَا يَخْفَى حَالُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ ذَوُو الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا، مَعَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُنَافِي تَحْرِيمَهُ، لَكِنْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعُمَومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اعْتَقَدُوا شُمُولَهَا هَذَا، مَعَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُدْرِجُونَ هَذَا الْعُمُومَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أُوجِبَ وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْمَقْثَاةِ جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ وَمُتَعَذِّرٌ، كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي الْمَقْثَاةِ أَوْكَدَ، وَلِهَذَا جَوَّزَهَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ كَمَالِكٍ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَرَّرْتُمْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لَا بَيْعٌ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُونَ النَّهْيَ، فَلِذَا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجُوزُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرِهِ الَّذِي لَمْ يَصْلُحْ، وَابْتِيَاعُ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ.
وَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ ابْتِيَاعِ الْمَقَاثِي مَعَ أَنَّ بَعْضَ خُضَرِهَا لَمْ يُخْلَقْ، وَجَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرِيقَيْنِ.

الصفحة 50