كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ انْصَرَفَ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَخْصٌ مَعْهُودٌ أَوْ نَوْعٌ مَعْهُودٌ انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَيْهِ، كَمَا انْصَرَفَ إلَى الرَّسُولِ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ} [النور: 63] وَقَوْلِهِ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] ، إلَى النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودُ شَخْصٍ وَلَا نَوْعٌ انْصَرَفَ إلَى الْعُمُومِ.
فَالْبَيْعُ الْمَذْكُورُ لِلثَّمَرِ هُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ الَّذِي يَعْهَدُونَهُ دَخَلَ كَدُخُولِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالْقَرْنِ الثَّالِثِ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي «نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» بِحَمْلِهِ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا عَلَى عَهْدِهِ مِنْ الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ كَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْعُمُومِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ الْمَعْنَوِيِّ وَعَدَمِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ، قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» . وَفِي لَفْظٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ» ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ» ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ» .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ كَمَا جَاءَ مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْهُو فَيَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ، وَإِلَّا فَمِنْ الثِّمَارِ مَا يَكُونُ نُضْجُهَا بِالْبَيَاضِ، كَالتُّوتِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْعِنَبِ الْأَبْيَضِ، وَالْإِجَّاصِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ دِمَشْقَ الْخَوْخَ، وَالْخَوْخِ الْأَبْيَضِ الَّذِي

الصفحة 51