كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

يُسَمِّيهِ الْفُرْسُ، وَيُسَمِّيهِ الدِّمَشْقِيُّونَ الدَّرَاقِنَ، أَوْ بِاللَّبَنِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ، «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ هِيَ الرُّطَبُ.
وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ» ، وَالتَّمْرُ الثَّانِي هُوَ لِلرُّطَبِ بِلَا رَيْبٍ.
فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ، فَإِنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهِ حُمْرَتُهُ أَوْ صُفْرَتُهُ» ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ الثَّمَرِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَصَرِيحٌ فِي النَّخْلِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّوْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ» ، وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَوَّزَ اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ لَيْسَتْ عَامَّةً عُمُومًا لَفْظِيًّا فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَفْظًا لِمَا عَهِدَهُ الْمُخَاطَبُونَ وَعَامَّةٌ مَعْنًى لِكُلِّ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا ذَكَرْنَا عَدَمَ تَحْرِيمِهِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْحِلِّ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَبِهِ يَتِمُّ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّ الْأَدِلَّةَ النَّافِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ والاستصحابية يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ بِشَرْطِ نَفْيِ النَّاقِلِ الْمُغَيِّرِ وَقَدْ بَيَّنَّا انْتِفَاءَهُ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ وَإِنْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، لَكِنْ لَيْسَتْ مُرَادَةً بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِثْلَ هَذَا الْعُمُومِ، فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ

الصفحة 52