كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الثَّمَرِ التَّابِعِ لِشَجَرِهِ، حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا لَمْ تُؤَبَّرْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ» ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً، وَالْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُوَرٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ آثَارِ السَّلَفِ وَمِنْ الْمَعَانِي مَا يَخُصُّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَ عَامًّا، أَوْ بِالِاشْتِدَادِ بِلَا تَغْيِيرِ لَوْنٍ، كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ مُتَنَوِّعٌ تَارَةً يَكُونُ بِالرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَتَارَةً بِلِينِهِ، وَتَارَةً بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ بَيَاضٍ، وَتَارَةً لَا يَتَغَيَّرُ.
وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ مَا يَأْتِي فِي الْحُمْرَةِ الصُّفْرَةُ، وَقَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ النَّخْلُ فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَفِي نَظَائِرِهَا، وَانْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى يُعْطِيَ حَقَّهُ، وَأَحْسَنُ مَا اسْتَدَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيَهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
وَأَمَّا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، بِأَنَّهُ بَيْعُ السِّنِينَ، فَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَبْتَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الَّتِي يَسْتَثْمِرُهَا رَبُّ الشَّجَرِ، فَأَمَّا اكْتِرَاءُ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَسْتَثْمِرَهَا فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ وَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ

الصفحة 53