كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الْمُزَارَعَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: «لَا تُكْرُوا الْأَرْضَ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِنْ الْكِرَاءِ وَالْمُعَاوَضَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَصْلُحَ وَإِلَى الْمُزَارَعَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ: وَهَذَا نَهْيٌ عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، هَذَا نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْبَيْعِ. وَذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْكِرَاءِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِلَيْهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ وَهَذِهِ الْمُكَارَاةَ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْخُصُومَةِ وَالشَّنَآنِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] .

فَصْلٌ
وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ، كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضٍ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْأَجْرُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا كَالثَّمَرِ، وَلِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ» ، وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلًا. وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ، وَقَدْ لَا يَخْرُجُ، فَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَقَدْ اسْتَوْفَى عَمَلَ الْعَامِلِ بَاطِلًا.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا بِتَحْرِيمِ هَذَا، وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إدْخَالًا لِذَلِكَ فِي الْغَرَرِ، لَكِنْ جَوَّزَا مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَجَوَّزَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ كِرَاءَ الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ

الصفحة 54