كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ تَعَيَّنَ الْبَاقِرُ بِالْمَدِينَةِ دَارَ الْهِجْرَةِ، فَأَمَرَ أَلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، قَالَ وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا.
وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ، فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، بَلْ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا، لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرَّضْوَانِ جَمِيعُهُمْ زَارَعُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ عَلَى أَنْ أَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ، وَقَدْ تَأَوَّلَ مَنْ أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ مِثْلُ أَنْ قَالُوا الْيَهُودُ عَبِيدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ فَجَعَلُوا لَك مِثْلَ الْمُخَارَجَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَهُمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يَبِعْهُمْ وَلَا مَكَّنَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمِثْلُ أَنْ قَالَ هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ فَإِنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ إنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَامَلَ عَلَى عَهْدِهِ أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِذَلِكَ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ مَعَ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبِيحَةِ أَوْ
النَّافِيَةِ لِلْحَرَجِ
، وَمَعَ الِاسْتِصْحَابِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُشَارَكَةٌ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمُؤَاجَرَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ يَحْصُلُ مِنْ مَنْفَعَةِ أَصْلَيْنِ، مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّذِي لَيْسَ لِهَذَا كَبَدَنَةٍ وَبَقَرَةٍ، وَمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّذِي لِهَذَا كَأَرْضِهِ وَشَجَرِهِ، كَمَا تَحْصُلُ الْمَغَانِمُ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْغَانِمِينَ وَخَيْلِهِمْ، وَكَمَا يَحْصُلُ مَالُ الْفَيْءِ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ، فَمَنْ اسْتَأْجَرَ الْبِنَاءَ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مَقْصُودَهُ بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا، كَمَا يُشْتَرَطُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ، وَهُنَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْعَامِلِ

الصفحة 59