كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ، إذْ الْأَفْعَالُ مِنْ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً، وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ، كَالْمَبِيعَاتِ بِالْمُعَاطَاةِ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ، أَوْ بَنَى مَطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ، وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ: كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ، أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ، وَكَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أُمُورُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى يَوْمِنَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذَا قَوْلُ الْغَالِبِ عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ، بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ، كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، لَيْسَ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ الْبَرْبَرِ أَوْ الْحَبَشَةِ، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ، إذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ.
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَلِهَذَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنْ الْآخَرِ، بِأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا لِلَّهِ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ يَقُولَ: أَعْطِنِي خُبْزًا بِدِرْهَمٍ فَيُعْطِيَهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوْ الْحَلْوَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ، أَوْ يَضَعُ الْمَتَاعَ لِيُوضَعَ لَهُ بَدَلُهُ، فَإِذَا وُضِعَ الْبَدَلُ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ،

الصفحة 6