كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَبَدَنِ بَقَرِهِ وَحَدِيدِهِ، هُوَ مِثْلُ مَنْفَعَةِ أَرْضِ الْمَالِكِ وَشَجَرِهِ لَيْسَ مَقْصُودُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ. وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمَنْفَعَتَيْنِ، فَإِنْ حَصَلَ نَمَاءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَمَاءٌ ذَهَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَتُهُ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ كَسَائِرِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ نَمَاءِ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ.
وَهَذَا جِنْسٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ يُخَالِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحُكْمِهِ الْإِجَارَةَ الْمَحْضَةَ، وَمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْعَدْلِيَّةَ فِي الْأَرْضِ جِنْسَانِ مُعَاوَضَاتٌ وَمُشَارَكَاتٌ، فَالْمُعَاوَضَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُشَارَكَاتُ شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ، يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي الْمُبَاحَاتِ كَمَنَافِعِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَا يَحْيَا مِنْ الْمَوَاتِ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَاشْتِرَاكُ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَاشْتِرَاكُ الْمُوصَى لَهُمْ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَاشْتِرَاكُ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ أَبْدَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَانِ الْجِنْسَانِ هُمَا مَنْشَأُ الظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وَالتَّصَرُّفَاتُ الْأُخْرَى هِيَ الْفَضْلِيَّةُ كَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمُعَادَلَةِ هِيَ مُعَاوَضَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ وَالْغَرَرِ، إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْبُتْ الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأْخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ، إذْ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ، وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ بَلْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كَمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِهِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَ، وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَإِجَارَةِ الْغَرَرِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا وَالْآخَرَ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَأْخَذُ هَذِهِ الْأُصُولِ وَعَلِمَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ أَشْبَهَ بِأُصُولِ

الصفحة 60