كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الشَّرِيعَةِ وَأَعْرَفُ فِي الْعَقْدِ، وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ مَحْذُورٍ، وَمِنْ جَوَازِ إجَارَةِ الْأَرْضِ بَلْ وَمِنْ جَوَازِ كَثِيرٍ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ هِيَ
مَصْلَحَةٌ
مَحْضَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَا فَسَادٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ فِيهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَهَا مِنْ إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ بَعْدَمَا فَهِمُوهُ مِنْ الْآثَارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا هَذَا إجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، لِمَا فِيهَا مِنْ عَمَلٍ بِعِوَضٍ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِيَنْتَفِعَ بِعَمَلِهِ يَكُونُ أَجِيرًا، كَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ أَبْدَانٍ وَكَاشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَغَانِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِمَالٍ يَضْمَنُهُ لَهُ الْآخَرُ لَا يَتَوَالَدُ مِنْ عَمَلِهِ كَانَ هَذَا إجَارَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا عَيْنٌ تَنْمُو بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَجَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالْمُضَارَبَةُ جَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهَا بِعَيْنِهَا سُنَّةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ يَرَى أَنْ يَقِيسَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ، فَيَجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا مَنْ خَالَفَ، وَقِيَاسُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ جَوَازُ أَحَدِهِمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ حُكْمُ الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ غَيْرِ الْأَصْلِ، بَلْ الْأَصْلُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَدَلُهُ، فَالْمَالُ الْمُقَسَّمُ حَصَلَ نَفْسُ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ، فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ. قِيلَ هَذَا الْفَرْقُ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةِ رَأْسِ الْمَالِ.
وَلِهَذَا يُرَدُّ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلُ رَأْسِ مَالِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ كَمَا أَنَّ الْعَامِلَ بَقِيَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَتْ إضَافَةُ الرِّبْحِ إلَى عَمَلِ بَدَنِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا.
وَلِهَذَا فَالْمُضَارَبَةُ الَّتِي يَرْوُونَهَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْ عُمَرَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَحَمَلَاهُ إلَى أَبِيهِمَا فَطَلَبَ عُمَرُ جَمِيعَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ كَالْغَصْبِ حَيْثُ أَقْرَضَهُمَا وَلَمْ يُقْرِضْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَالُ مُشْتَرِكٌ وَأَحَدُ الشُّرَكَاءِ إذَا اتَّجَرَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ الْآخَرِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ الضَّمَانُ كَانَ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الرِّبْحُ

الصفحة 61