كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

لَنَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، هَلْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِيمَنْ اتَّجَرَ بِمَالُ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ أَوْ لَهُمَا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ يَتَوَلَّدُ عَنْ الْأَصْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَعَوَاقِبُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا، وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً يُقَالُ مَنِيحَةُ وَرِقٍ وَتَقُولُ النَّاسُ أَعِرْنِي دَرَاهِمَك، يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ هَذَا الدَّرَاهِمِ كَرَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَّةِ، وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ فِيهَا وَرَدَّهَا، وَسَمَّوْا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرَ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ.
وَيُقَالُ أَيْضًا لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ إذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ قِيلَ الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَذْرِ فَقَدْ يُقَالُ الرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ بَلْ الزَّرْعُ حَصَلَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا النَّمَاءُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ، وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ. وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ، وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ تَعَيَّنَ الْعَقْدُ كَمَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ فَضَعِيفٌ، وَاَلَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى إطْنَابٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مَنْ بَدَّلَ نَفْعًا لِعِوَضٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ، كَمَا فِي

الصفحة 62