كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضُ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَيُقَالُ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْفِيَّةٌ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا وَهُوَ مُنْتَفٍ فَلَا تَحْرِيمَ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَغَيْرِهِ فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ، بَلْ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ، قَالَ: فِيمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَك، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الزَّرْعِ» ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ حَقْلًا، وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ، عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا، وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ ، قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَجِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَإِقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
فَهَذَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِرَاءٌ إلَّا بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ مِنْ الْحَقْلِ، وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُقَابَلَاتِ هُوَ التَّعَادُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى غَرَرٍ أَوْ رِبًا دَخَلَهَا

الصفحة 64