كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

صَاحِبُ الْأَرْضِ فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لِرَافِعٍ فَكَيْفَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجْزِئْ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ، وَعَنْ أُسَيْدَ بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَعْطَاهَا بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ أَوْ النِّصْفِ، وَيُشْتَرَطُ ثَلَاثُ جَدَاوِلَ، وَالْقُصَارَةُ، وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ، وَكَانَ الْعَيْشُ إذْ ذَاكَ شَدِيدًا وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيدِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً، فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ، وَيَقُولُ: «مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، أَوْ لِيَدَعْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَادَ أَحْمَدُ «وَيَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ» .
وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنْ النَّخْلِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ أَخَذْته بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَالْقُصَارَةُ: مَا سَقَطَ مِنْ السُّنْبُلِ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ فَأَخْبَرَ سَعْدٌ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانُوا يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَّاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا يَتَغَذَّى بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ الْبِئْرِ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ «اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ بِالْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ اشْتِرَاطِ زَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ، وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُصِيبُ مِنْ الْقُصَارَةِ وَمِنْ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيَدَعْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ النَّهْيَ قَدْ أَخْبَرُوا بِالصُّورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، وَالْعِلَّةَ الَّتِي نَهَى مِنْ أَجْلِهَا، وَإِذَا كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكِرَاءَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ، وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْهُ أَنَّهُ رَخَّصَ غَيْرَ ذَلِكَ الْكِرَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا قُرِنَ بِهِ

الصفحة 66