كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

النَّهْيُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُزَابَنَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خِطَابًا لِمُعَيَّنٍ فِي مِثْلِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ مَقِيلًا بِمِثْلِ حَالِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ: إنَّ بِهِ حَرَارَةً فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ الدَّسَمَ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى مَعْهُودٌ أَوْ حَالٌ تَقْتَضِيهِ انْصَرَفَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِعْتُك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ.
فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لَفْظَ الْكِرَاءِ إلَّا لِذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، ثُمَّ خُوطِبُوا بِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ الْفَرَسُ أَوْ ذَوَاتُ الْحَافِرِ فَقَالَ: لَا يَأْتِي بِدَابَّةٍ لَمْ يَنْصَرِفْ هَذَا الْمُطْلَقُ إلَّا إلَى ذَلِكَ، وَنَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْعُرْفِ وَبِالسُّؤَالِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ، قُلْت: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ، وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ امْسِكُوهَا» . فَقَدْ خَرَجَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.
وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ الْمَحْضَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ وَلَا ذَكَرَهَا رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِرَاءِ الْمُعْتَادِ، فَإِنَّ الْكِرَاءَ اسْمٌ لِمَا وَجَبَتْ فِيهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ إمَّا عَيْنٌ وَإِمَّا دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَضْمُونًا فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ، أَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ.
فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ جَمِيعِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ هُوَ الْكِرَاءُ الْمُطْلَقُ، بَلْ هُوَ شَرِكَةٌ مَحْضَةٌ إذْ لَيْسَ جَعْلُ الْعَامِلِ مُكْتَرِيًا لْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْمَالِكِ مُكْتَرِيًا لِلْعَامِلِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا كِرَاءً أَيْضًا، فَإِنَّمَا هُوَ كِرَاءٌ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِثَالُهُ.
فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْخَاصُّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فَلَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ رَافِعٌ أَحَدَ

الصفحة 67