كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

نَوْعَيْ الْكِرَاءِ الْجَائِزِ وَبَيَّنَ الْكِرَاءَ الْآخَرَ الَّذِي نُهُو عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا» أَمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَمِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُقَالُ الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ إيجَابٍ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَأَكْثَرُهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ أَبُو ثَعْلَبَةَ: «إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَأَرْخِصُوهَا بِالْمَاءِ» .
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ، كَمَا قِيلَ لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ، كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانَا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجٍ لَا بِتَرْكِهَا جُمْلَةً، فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ خَشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةَ عَنْ الطَّاعَةِ الرُّخْصَةُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ، كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَحَدَفَهُ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» .
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحَةِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى، عَنْ الْمُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا» .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِزَرْعِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَقَالَ: اُكْرُوَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ رَوَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْت لِطَاوُسٍ لَوْ تَرَكْت

الصفحة 68