كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يَقِيسُونَ جَمِيعَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ تُوجِبُ مُقْتَضَيَاتِهَا بِالشَّرْعِ، فَإِذًا إرَادَةُ تَغْيِيرِهَا تَغْيِيرٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ بِمَنْزِلَةِ تَغْيِيرِ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا نُكْتَةُ الْقَاعِدَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَجْهٍ، فَاشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ.
وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْعِبَادَاتِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا، فَلَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِحْلَالَ بِالْعُذْرِ مُتَابَعَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، حَيْثُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، وَيَقُولُ أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] . {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] .
قَالُوا: فَالشُّرُوطُ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَزِيَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَمَا أَبْطَلَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا بِالْعُمُومِ أَوْ بِالْخُصُوصِ قَالُوا ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي شُرُوطِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ قَالُوا هَذَا عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَيُخَصُّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ يُرْوَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَشَرِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ تُعَارِضُهُ،

وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ الْمَعْرُوفُونَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ صَانِعًا، أَوْ اشْتِرَاطِ طُولِ الثَّوْبِ أَوْ قَدْرِ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ شَرْطٌ صَحِيحٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ، وَلَا يَحْرُمُ وَيَبْطُلُ مِنْهَا إلَّا مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِبْطَالِهِ نَصٌّ، أَوْ قِيَاسٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَأُصُولُ أَحْمَدَ

الصفحة 79