كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

أَرَدْتَ بَيْعَهَا فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي تَأْخُذُهَا بِهِ مِنِّي، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا وَلَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِرَجُلٍ: لَا يَقْرَبَنَّهَا وَلِلْآخَرِ فِيهَا شَرْطٌ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ امْرَأَتِهِ، وَشَرَطَ لَهَا إنْ بَاعَهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا، فَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا يَنْكِحُهَا وَفِيهَا شَرْطٌ. قَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عُمَرُ: كُلُّ شَرْطٍ فِي فَرْجٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا.

وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَطَأَهَا،؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِامْرَأَتِهِ الَّذِي شَرَطَ فَكَرِهَ عُمَرُ أَنْ يَطَأَهَا وَفِيهَا شَرْطٌ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَشَرَطَ لِأَهْلِهَا أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ فَكَأَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ إنْ اشْتَرَطُوا لَهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ فَلَا يَقْرَبُهَا، يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ بَيْعَهَا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَالْمُقَابَلَةِ.
وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبْطِلِ لِهَذَا الشَّرْطِ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: جَائِزٌ أَيْ الْعَقْدُ جَائِزٌ وَبَقِيَّةُ نُصُوصِهِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ مُرَادَهُ الشَّرْطُ أَيْضًا، وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ الْقِصَّةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ اُشْتُرِطَ الْمَبِيعُ فَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ أَوْ يَتَسَرَّاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ يُعَيَّنُ لِصَرْفٍ وَاحِدٍ، كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صُهَيْبٍ دَارًا، وَشَرَطَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى صُهَيْبٍ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصَرُّفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ. فَكَمَا أَجَازَ الْإِجْمَاعُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَجَوَّزَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنَافِعِهِ جَوَّزَ أَيْضًا اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ هَذَا الشَّرْطُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُطْلَقًا فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَكُلُّ شَرْطٍ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يُنَافِيَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ، أَوْ اشْتِرَاطِ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ.

الصفحة 82