كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

فَأَمَّا إذَا شَرَطَ شَرْطًا بِقَصْدٍ بِالْعَقْدِ لَمْ يُنَافِ مَقْصُودَهُ، هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاعْتِبَارُ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَالدَّلِيلِ النَّافِي. أَمَّا الْكِتَابُ:
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] . وَقَالَ: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} [الأحزاب: 15] .
فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَهَذَا عَامٌّ، وَكَذَلِكَ أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَبِالْعَهْدِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} [الأحزاب: 15] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَمَرَ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْعُهُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَوْلِ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ تَسَاءَلُونَ بِهِ تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ

الصفحة 83