كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكُفَّارِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَعْيَانِ، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَفْعَالِ، كَمَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسَ ثِيَابِهِ وَالطَّوَافَ فِيهَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَمْسِيًّا، وَيَأْمُرُونَهُ بِالتَّعَرِّي إلَّا أَنْ يُعِيرَهُ خُمُسَيْ ثَوْبِهِ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ تَحْتَ سَقْفٍ، وَكَمَا كَانَ النَّصَارَى يُحَرِّمُونَ إتْيَانَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا إذَا كَانَ يُحِبُّهَا، وَيُحَرِّمُونَ الطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدُوهَا بِلَا شَرْعٍ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا، إلَّا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَرَّمٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَهْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حِلُّهَا بِشَرْعٍ خَاصٍّ كَالْعُهُودِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِهَا، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي شَرَّعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، فَإِذَا حَرَّمْنَا الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ الْعَادِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كُنَّا مُحَرِّمِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يُشَرَّعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ، فَلَا يُشَرَّعُ عَادَةً إلَّا بِشَرْعٍ وَلَا يُحَرَّمُ عَادَةً إلَّا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ، وَالْعُقُودُ فِي الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَيْسَتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُفْتَقَرُ فِيهَا إلَى شَرْعٍ، كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعُقُودُ تُغَيِّرُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ أَوْ الْمَالِ إذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى حَالٍ فَعَقَدَ عَقْدًا أَزَالَهُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فَقَدْ غَيَّرَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ، فَإِنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِي إبَاحَتِهَا فَيُقَالُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِشَخْصٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَانْتِقَالُهَا بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى عَمْرٍو هُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا فَيَمْلِكُهَا بِلَا سَبِيلٍ وَنَحْوِهِ هُوَ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَبْلَ الذَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ فَالذَّكَاةُ كَالْوَارِدَةِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَالِ، فَكَمَا أَنَّ أَفْعَالَنَا فِي الْأَعْيَانِ مِنْ الْأَخْذِ وَالذَّكَاةُ الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ، وَإِنْ غَيَّرَ حُكْمَ الْعَيْنِ فَكَذَلِكَ أَفْعَالُنَا فِي الْأَمْلَاكِ بِالْعُقُودِ وَنَحْوِهَا الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ، وَإِنْ غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمِلْكِ لَهُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَفْعَالِنَا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ وَمِلْكِ الْبُضْعِ

الصفحة 91