كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ نَحْنُ أَحْدَثْنَا أَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَالشَّارِعُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنَّا لَمْ نُثْبِتْهُ ابْتِدَاءً كَمَا أَثْبَتَ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْنَا رَفْعَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا رَفْعُهُ، فَمَنْ اشْتَرَى عَيْنًا فَالشَّارِعُ أَحَلَّهَا لَهُ وَحَرَّمَهَا عَلَى غَيْرِهِ لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالْبَيْعِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْهِ رَفْعَ ذَلِكَ، فَلَأَنْ يَرْفَعَ مَا أَثْبَتَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَحَبَّ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ، كَمَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُعْطِي مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ.
وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا مَأْخَذُهَا، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّةَ مِنْ حِلِّ هَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ وَحُرْمَتِهِ عَلَى عَمْرٍو لَمْ يُشَرِّعْهَا الشَّارِعُ شَرْعًا جُزْئِيًّا وَإِنَّمَا شَرَّعَهَا شَرْعًا كُلِّيًّا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] .
وَهَذَا الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ ثَابِتٌ سَوَاءٌ وُجِدَ هَذَا الْبَيْعُ الْمُعَيَّنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ أَثْبَتَ مِلْكًا مُعَيَّنًا، فَهَذَا الْمُعَيَّنُ سَبَبُهُ فِعْلُ الْعَبْدِ، فَإِذَا رَفَعَهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ هُوَ بِفِعْلِهِ، إلَّا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ، إذْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْجُزْئِيِّ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَفْعَ الْحُقُوقِ بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ مِثْلُ نَسْخِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ لَا يُزِيلُهُ إلَّا الَّذِي أَثْبَتَهُ وَهُوَ الشَّارِعُ، وَأَمَّا هَذَا الْمُعَيَّنُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدْخَلَهُ فِي الْمُطْلَقِ، وَإِدْخَالُهُ فِي الْمُطْلَقِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إخْرَاجُهُ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنِ بِحُكْمٍ أَبَدًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الثَّوْبُ بِعْهُ أَوْ لَا تَبِعْهُ أَوْ هَبْهُ أَوْ لَا تَهَبْهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْمُطْلَقِ الَّذِي إذَا دَخَلَ فِيهِ الْمُعَيَّنُ حَكَمَ عَلَى الْمُعَيَّنِ فَتَدَبَّرْ هَذَا، وَفُرِّقَ بَيْنَ تَعْيِينِ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ الْخَاصِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعَبْدُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْمُطْلَقِ، وَبَيْنَ تَعْيِينِ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ الْعَبْدِ.
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَحْرُمُ فِيهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّمَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا

الصفحة 92