كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْوَفَاءَ بِهَا مُطْلَقًا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمِلَلُ، بَلْ وَالْعُقَلَاءُ جَمِيعُهُمْ وَأَدْخَلَهَا فِي الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ فَفِعْلُهَا ابْتِدَاءً لَا يُحَرَّمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ، وَالْوَفَاءُ بِهَا وَاجِبٌ لِإِيجَابِ الشَّرْعِ، وَكَذَا الْإِيجَابُ الْعَقْلِيُّ أَيْضًا،

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ رِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنَتِيجَتُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَقَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] .
فَعَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِطِيبِ النَّفْسِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِشَرْطِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ وَهُوَ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى وَصْفِ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ سَبَبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ طِيبُ النَّفْسِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلصَّدَاقِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّبَرُّعَاتِ قِيَاسًا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِي التِّجَارَةِ إلَّا التَّرَاضِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمُبِيحُ لِلتِّجَارَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ طَابَتْ نَفْسُ الْمُتَبَرِّعِ بِتَبَرُّعٍ ثَبَتَ حِلُّهُ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ لَهُ حَالَانِ، حَالُ إطْلَاقٍ وَحَالُ تَقَيُّدٍ، فَفُرِّقَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ الْعُقُودِ.
فَإِذَا قِيلَ: هَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَنَافِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ زَائِدٍ وَهَذَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِنْ أُرِيدَتَا فِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا أَتَى فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ يُرَادُ جَمِيعُ صُوَرِهِ وَشُرِطَ فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ الْمَقْصُودَ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ بَيْنَ إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ وَنَفْيِهِ، فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ عِنْدَنَا.

وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ قَدْ تَبْطُلُ لِكَوْنِهَا قَدْ تُنَافِي مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ

الصفحة 93