كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَقْصُودَهُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْعَقْدِ فَإِنَّ اشْتِرَاءَ الْعَبْدِ لِعِتْقِهِ يُقْصَدُ كَثِيرًا، فَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ، كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ لَغْوًا، وَإِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا وَلَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ، بَلْ الْوَاجِبُ حِلُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ لِلنَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، إذْ لَوْلَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ فَيُبَاحُ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَرْفَعُ الْحَرَجَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ لَا تَحِلُّ وَلَا تَصِحُّ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ خَاصٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَوْ يُقَالُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا، أَوْ يُقَالُ تَصِحُّ، وَلَا تَحْرُمُ إلَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا الشَّارِعُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْقُبُوضِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الرِّبَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] . فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ بِعَقْدِ الرِّبَا، بَلْ مَفْهُومُ الْآيَةِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ يُوجِبُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْقَطَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الرِّبَا الَّذِي فِي الذِّمَمِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا قَسْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ، وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ قَسْمُ الْإِسْلَامِ» .
وَأَقَرَّ النَّاسُ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا، هَلْ عَقَدَ بِهِ فِي عِدَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِدَّةٍ؟ بِوَلِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؟ بِشُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ؟ . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ نِكَاحٍ وَلَا بِفِرَاقِ امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمُحَرِّمُ مَوْجُودًا حِينَ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَمَرَ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ، كَمَا أَمَرَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ

الصفحة 94