كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ عَلَى حِلِّ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ.
وَمَا عَارَضُوا بِهِ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . فَالشَّرْطُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَالْمَفْعُولُ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ وَالْخُلْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَشْرُوطُ لَا نَفْسُ التَّكَلُّمِ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ " أَيْ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ مَشْرُوطٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْدِيدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْدِيدُ الْمَشْرُوطِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: «كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» ، أَيْ: كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَالَفَ ذَلِكَ الشَّرْطُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ، حَتَّى يُقَالَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ اشْتَرَطَ أَمْرًا لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا يُبَاحُ فِعْلُهُ بِدُونِ الشَّرْطِ حَتَّى يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ. وَيَجِبَ بِالشَّرْطِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ أَبَدًا كَانَ هَذَا الْمَشْرُوطُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَانْظُرْ إلَى الْمَشْرُوطِ إنْ كَانَ فِعْلًا أَوْ حُكْمًا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ جَازَ اشْتِرَاطُهُ وَوَجَبَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبِحْهُ لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُهُ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِزَوْجَتِهِ فَهَذَا الْمَشْرُوطُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبِيحُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا، فَإِذَا شَرَطَ عَدَمَ السَّفَرِ فَقَدْ شَرَطَ مَشْرُوطًا مُبَاحًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَمَضْمُونُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ، أَوْ يُقَالُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَفْيُهُ، كَمَا يُقَالُ «سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَعْرِفُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ» أَيْ تَعْرِفُوا خِلَافَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنْكُمْ.

الصفحة 96