كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 5)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْوَحِيدُ جَعَلَ الْجَمِيعَ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ قَوْلُ الْبَشَرِ؛ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا نِصْفُ قَوْلِ الْوَحِيدِ - ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا النَّظْمِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ، وَتَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عَرَّبْنَاهَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنَ إذَا تَرْجَمْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ تَوْرَاةً.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَمُسَمَّى كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَشْتَرِكُ الْأَعْيَانُ فِي مُسَمَّى النَّوْعِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ اشْتِرَاكَ الْأَشْخَاصِ فِي أَنْوَاعِهَا، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانَ يَشْتَرِكُونَ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا - وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ.
وَمَنْ خَالَفَ هَذَا كَانَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْعُقُولِ مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ؛ فَاضْرِبْ بِكَلَامِ الْبِدْعَتَيْنِ رَأْسَ قَائِلِهِمَا؛ وَالْزَمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ الْحَمْقَاوَيْنِ ثَارَتْ الْفِتَنُ، وَعَظُمَتْ الْأَحْزَابُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ قَدْ يُقَرِّرُونَهُمَا بِمَا قَدْ يَلْبَسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، كَمَا قَرَّرَ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بَعْضَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّ الْقَدِيمَ ظَهَرَ فِي الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِيهِ.
وَأَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ إنَّهَا قَدِيمَةٌ، خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمَ قَدِيمٌ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَالْمَشْرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ
الصفحة 11
592