كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 5)

لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَتَيْنِ
: الْوَفَاءِ وَالْجِهَادِ. وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تُوَافِقُ مَا كَتَبْتُهُ وَقَدْ ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ

قَالَ الْقَاضِي إذَا تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ وَكَانَ عَلَى مَسَافَةٍ يُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ فَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ كَالْحَجِّ وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ وُجُوبَ الْجِهَادِ قَدْ يَكُونُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ فَيَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ الْهِجْرَةِ ثُمَّ الْهِجْرَةُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الرَّاحِلَةُ فَبَعْضُ الْجِهَادِ أَوْلَى.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ» وَأَثَرِهِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الطَّاعَةَ الَّتِي عِمَادُهَا الِاسْتِنْفَارُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَهُنَا نَصٌّ فِي وُجُوبِهِ مَعَ الْإِعْسَارِ بِخِلَافِ الْحَجِّ. هَذَا كُلُّهُ فِي قِتَالِ الطَّلَبِ.

وَأَمَّا قِتَالُ الدَّفْعِ فَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالدِّينِ فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا فَالْعَدُوُّ الصَّائِلُ الَّذِي يُفْسِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا شَيْءَ أَوْجَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ دَفْعِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَرْطٌ بَلْ يُدْفَعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ دَفْعِ الصَّائِلِ الظَّالِمِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ طَلَبِهِ فِي بِلَادِهِ، وَالْجِهَادُ مِنْهُ مَا هُوَ بِالْيَدِ وَمِنْهُ مَا هُوَ بِالْقَلْبِ وَالدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ وَاللِّسَانِ وَالرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ وَالصِّنَاعَةِ فَيَجِبُ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُهُ وَيَجِبُ عَلَى الْقَعَدَةِ لِعُذْرٍ أَنْ يَخْلُفُوا الْغُزَاةَ فِي أَهْلِيهِمْ وَمَالِهِمْ قَالَ الْمَرْوَزِيِّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْغَزْوِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ فِي مِثْلِ الْكَانُونَيْنِ فَيَتَخَوَّفُ الرَّجُلُ إنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَى لَهُ أَنْ يَغْزُوَ أَوْ يَقْعُدَ قَالَ لَا يَقْعُدُ الْغَزْوُ خَيْرٌ لَهُ وَأَفْضَلُ.
فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِالْخُرُوجِ مَعَ خَشْيَةِ تَضْيِيعِ الْفَرْضِ لِأَنَّ هَذَا مَشْكُوكٌ فِيهِ أَوْ لِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ فَضْلِ الْغَزْوِ مُرْبِيًا عَلَى مَا فَاتَهُ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ثَوَابُ بَعْضِ الْمُسْتَحَبَّاتِ أَوْ وَاجِبَاتِ الْكِفَايَةِ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ وَاجِبٍ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزَكَّى بِدِرْهَمٍ

قَالَ ابْنُ بَخْتَانَ سَأَلَتْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَغْزُو قَبْلَ الْحَجِّ قَالَ نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ الْحَجِّ أَجْوَدُ.
وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ يُرِيدُ الْغَزْوَ وَلَمْ يَحُجَّ فَنَزَلَ عَلَى قَوْمٍ مُثَبِّطُوهُ عَنْ

الصفحة 538