كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 5)
الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] .
فَمَنْ يَهْدِي الْخَلْقَ كَيْفَ يَكُونُ حَائِرًا.
وَاَللَّهُ قَدْ ذَمَّ الْحِيرَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71] .
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْحِيرَةُ مِنْ جِنْسِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ اهْتِدَاءً فِي نَفْسِهِ، وَأَهْدَى لِغَيْرِهِ، وَأَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] .
وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] إلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] .
فَقَدْ كَفَلَ اللَّهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] وَقَالَ تَعَالَى:
الصفحة 58