كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 5)

لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، قَائِلٌ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَبَدَّعُوهُ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ.
وَقَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ، فَمَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ، فَابْتِدَاعٌ هَذَا وَضَلَالُهُ وَاضِحٌ.
فَمَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ صَوْتَهُ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَنَحْنُ لَا نَسْمَعُ إلَّا صَوْتَ الْقَارِئِ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ. فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ وَسَمَاعَ كُلِّ كَلَامٍ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِلَا وَاسِطَةِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَنَا بِالْقُرْآنِ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، أَوْ إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَضَلَالًا.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ لَكَانَ ضَلَالًا وَاضِحًا، فَكَيْفَ مَنْ يَقُولُ: إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى؛ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا بِصَوْتٍ سَمِعَهُ مُوسَى، فَلَيْسَ صَوْتُ الْمَخْلُوقِينَ صَوْتًا لِلْخَالِقِ.
وَكَذَلِكَ مُنَادَاتُهُ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، وَتَكَلَّمَهُ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَسْمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَوْتَهُ كَجَرِّ السَّلْسَلَةِ عَلَى الصَّفَا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ كُلُّهَا، لَيْسَ فِيهَا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ هِيَ صِفَةُ الْخَالِقِ، بَلْ وَلَا مِثْلُهَا بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، فَلَيْسَ كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِ وَلَا مَعْنَاهُ مِثْلَ مَعْنَاهُ، وَلَا حَرْفُهُ مِثْلَ حَرْفِهِ، وَلَا صَوْتُهُ مِثْلَ صَوْتِهِ، كَمَا أَنَّ لَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِهِ، وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِ، وَلَا سَمْعُهُ مِثْلَ سَمْعِهِ، وَلَا بَصَرُهُ مِثْلَ بَصَرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فَطْرِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَبَيْن سَمَاعِهِ مِنْ

الصفحة 9