كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ امْرَأَةً لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُفَارِقَهَا إذَا سَافَرَ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا وَهُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَاخْتُلِفَ إذَا فَهِمَتْ ذَلِكَ. أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يُكْرَهَ الَّتِي يَنْكِحُهَا عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَ وَعَلَى ذَلِكَ يَأْتِي، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَخْبَرَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَ، ثُمَّ أَرَادَ إمْسَاكَهَا فَلَا يُقِيمُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْسِكُهَا وَلْيُفَارِقْهَا، قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَزَوَّجَ لِعُزْبَةٍ، أَوْ هَوًى لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَيُفَارِقُ فَلَا بَأْسَ، وَلَا أَحْسِبُ إلَّا أَنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ لَمَا رَضِيَتْ.
الثَّانِي: أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَكْرَهُهُ هَذِهِ مُتْعَةٌ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَهَا إلَى خُرَاسَانَ وَمِنْ رَأْيِهِ إذَا حَمَلَهَا أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا، فَقَالَ: لَا، هَذَا يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُتْعَةً، وَالْمُتْعَةُ حَرَامٌ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي، فِي خِلَافِهِ: ظَاهِرُ هَذَا إبْطَالُ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ اسْتَدْرَكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَبِي الْخَطَّابِ يَقُولُ أَحْمَدُ هَذِهِ مُتْعَةٌ.
قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لَكِنَّ قَوْلَ أَبِي الْخَطَّابِ يَقْوَى فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ، وَالْمُشَبَّهُ بِالشَّيْءِ قَدْ يَنْقُصُ عَنْهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا، فَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ فَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي رِوَايَةٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهَا مِثْلَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ بِهِ.
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَذْهَبِ فِيمَا إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا مَعَهُ، فَأَمَّا إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِأَصْلِنَا إذَا قُلْنَا: إنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُؤَثِّرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ تُفْسَخْ إلَى حِينِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنَةِ، وَهُوَ مَفْهُومُ مَا خَرَّجَهُ

الصفحة 13