كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْخِلَافَ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ الرُّخْصَةَ فِي مُجَرَّدِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَاشْتَرَطُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ، فَرَوَى عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ وَهُوَ مَأْجُورٌ بِذَلِكَ "، حَكَاهُ عَنْهُمَا الطَّحَاوِيَّ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: " هُوَ مَأْجُورٌ " وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: " وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمَا فَلَا بَأْسَ بِالنِّكَاحِ وَتَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ " حَكَاهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ رُخْصَةٌ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إذَا عَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ فَضْلًا عَنْ اشْتِرَاطِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَنِيَّةِ التَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَخَرَّجَ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَالَ: زَوَّجْتُكَ إلَى أَنْ تُحِلَّهَا، أَوْ: إلَى أَنْ تَطَأَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّأْجِيلِ، أَوْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنَّكَ إذَا وَطِئْتَهَا، أَوْ إذَا أَحْلَلْتَهَا بَانَتْ، أَوْ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، أَوْ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا إذَا حَلَّلْتَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ إذَا تَحَلَّلَتْ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّكَ تُطَلِّقُهَا إذَا حَلَّلْتَهَا لِلْمُطَلِّقِ أَوْ وَطِئْتَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْوَطْءِ، وَالطَّلَاقِ.
فَإِذَا قِيلَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ، كَانَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا قِيلَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا، ثُمَّ تُطَلِّقَهَا، كَانَ الْإِحْلَالُ هُوَ الْوَطْءَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا، لِأَنَّ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِلَّهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنْ يُحِلَّهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَمَنْ قَالَ الْأَوَّلَ عَنَى بِالْإِحْلَالِ الْوَطْءَ وَالطَّلَاقَ جَمِيعًا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَمَنْ قَالَ الثَّانِيَ كَانَ الْإِحْلَالُ عِنْدَهُ الْوَطْءَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ، أَوْ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْوَطْءُ صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، وَارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ بِهِ، فَهَذَا جَعَلَ الْوَطْءَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُحَلِّلُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُرْوَى عَنْ

الصفحة 14