كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ بِسَاطًا، قَالُوا: يَجْعَلُ بِسَاطَيْنِ، وَقَالُوا: حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ، قَالُوا: يُحْمَلُ، فَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَتَعَجَّبُ.
فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ مَا شُرِعَ لَهُ وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامَ لَيْسَ بِمُحْتَالٍ الْحِيلَةَ الْمَذْمُومَةَ، وَإِنْ سُمِّيَتْ حِيلَةً، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا. وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - بَيَانُهُ، وَسَيَأْتِي تَشْدِيدُهُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَاحْتِجَاجُهُ عَلَى رَدِّهَا فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ.

[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]
فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَإِبْطَالِهَا وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ
أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ مُظْهِرِي الْإِسْلَامِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] الْآيَةَ.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعِينَ مَخْدُوعُونَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ خَادِعٌ مَنْ يُخَادِعُهُ وَأَنَّ الْمَخْدُوعَ يَكْفِيهِ اللَّهُ شَرَّ مَنْ خَدَعَهُ، وَالْمُخَادَعَةُ هِيَ الِاحْتِيَالُ وَالْمُرَاوَغَةُ بِإِظْهَارِ الْخَيْرِ مَعَ إبْطَالِ خِلَافِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ. يُقَالُ: طَرِيقٌ خَدِعٌ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَصْدِ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَيُقَالُ: غُولٌ خَيْدَعٌ، وَيُقَالُ: لِلشَّرَابِ الْخَيْدَاعُ، وَضَبٌّ خَدِعٌ، أَيْ مُرَاوِغٌ. وَفِي الْمَثَلِ أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ،

الصفحة 19