كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

هُوَ حَقِيقَةُ الْحِيَلِ. وَدَلِيلُ مَسْأَلَةِ هَذَا مُطَابَقَةُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ لَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَمُرَادُهُ غَيْرُ الْإِسْلَامِ سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَائِي، فَإِنَّ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي أَظْهَرَ قَوْلًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي أَظْهَرَ فِعْلًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَا شُرِعَ لَهُ مُخَادِعًا، فَالْمُحْتَالُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ: إمَّا إظْهَارُ فِعْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ، أَوْ إظْهَارُ قَوْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ.
وَإِذَا كَانَ مُشَارِكًا لَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سُمِّيَا مُخَادِعَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يَشْرَكَهُمَا فِي اسْمِ الْخِدَاعِ، وَعُلِمَ أَنَّ الْخِدَاعَ اسْمٌ لِعُمُومِ الْحِيَلِ، لَا لِحُصُولِ هَذَا النِّفَاقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْوَجْهُ الثَّانِي لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]
الْوَجْهُ الثَّانِي
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ، لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] . بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ وَالنِّكَاحَ الْمُحَلَّلَ وَالنِّكَاحَ بَعْدَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ - وَالِاسْتِهْزَاءُ هُوَ السُّخْرِيَةُ وَهُوَ حَمْلُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ لَا عَلَى الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ - فَاَلَّذِي يَسْخَرُ بِالنَّاسِ هُوَ الَّذِي يَذُمُّ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ ذَمًّا يُخْرِجُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَخِرُوا بِالْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ، وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ بِأَنْ قَالُوا هَذَا مُرَاءٍ، وَلَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا مِنْ صَاعِ فُلَانٍ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي جَعَلَ الشَّارِعُ لَهَا حَقَائِقَ وَمَقَاصِدَ مِثْلِ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ، وَكَلِمَةِ اللَّهِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا الْفُرُوجُ، وَالْعُهُودُ، وَالْمَوَاثِيقُ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدِينَ. وَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَا حَقَائِقَهَا الْمُقَوَّمَةَ لَهَا، وَلَا مَقَاصِدَهَا

الصفحة 22