كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] .
فَعُلِمَ أَنَّهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ مَنَعَ الْخَيْرَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَإِنَّهُمْ انْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْعُقُوبَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ أَكَلُوا، أَوْ شَرِبُوا.
فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ عُوقِبُوا عَلَى قَصْدِ مَنْعِ الْخَيْرِ الْمُسْتَحَبِّ فَكَيْفَ بِمَنْ قَصَدَ مَنْعَ الْوَاجِبِ، إنْ كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا مَنْعَ وَاجِبٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَجَبَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ صَرْمِهِ بِاللَّيْلِ وَصَرْمِهِ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِالصَّرْمِ لَيْلًا الْفِرَارَ مِمَّا كَانَ لِلْمَسَاكِينِ فِيهِ مِنْ اللَّقَاطِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ كَانَ فِيمَا يَتَسَاقَطُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مُوَقَّتًا، وَوُجُوبُ هَذَا مَشْرُوطٌ بِسُقُوطِهِ وَحُضُورِ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ، كَأَنَّ السَّاقِطَ عَفْوُ الْمَالِ وَفَضْلُهُ، وَحُضُورُ أَهْلِ الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ السُّؤَالِ، وَالْفَاقَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ يَجِبُ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يَجِبُ قِرَى الضَّيْفِ، وَإِطْعَامُ الْمُضْطَرِّ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ، وَحَمْلُ الْعَقْلِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا فِرَارًا مِنْ حَقٍّ قَدْ انْعَقَدَ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَالْفِرَارِ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ إرَادَةِ الْبَيْعِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَالْفِرَارِ مِنْ قِرَى الضَّيْفِ قَبْلَ حُضُورِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ قَصْدَنَا هُنَا الْإِشَارَةُ فَقَطْ لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ.

[الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت]
الْوَجْهُ الرَّابِعُ
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:

الصفحة 24