كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] .
وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ احْتَالُوا عَلَى الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ بِحِيلَةٍ تُخَيَّلُ بِهَا فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيدُوا فِي السَّبْتِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ - وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ -: لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودُ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا.
وَقَالَ قَبْلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ: وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بِأَنْ حَظَرُوا الْحَظَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ، فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا. وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدِّرَّةِ؛ إذْ صَرَّهَا فِي قَصَبَةٍ، ثُمَّ دَفَعَهَا بِالْقَصَبَةِ إلَى خَصْمِهِ، وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ يَتَلَبَّسُ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ؛ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَالتَّحْلِيلِ بِاسْتِعَارَةِ الْمُحَلِّلِ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَالْخُلْعِ لِحِلِّ مَا لَزِمَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعَلَّقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمَ وَمَصَائِبَ لَوْ اعْتَمَدَ بَعْضَهَا مَخْلُوقٌ فِي حَقِّ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ فَكَيْفَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَاهِيرِ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ، وَذَكَرَهَا السُّدِّيَّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي رَوَاهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: كَانَتْ الْحِيتَانُ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَبْقَ حُوتٌ إلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ

الصفحة 25