كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

ذَاكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوا أَنَّ إلْقَاءَهَا بِأَيْدِيهِمْ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الصَّيْدُ.
فَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَنْقَرِيُّ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ وَأَظُنُّهُ الْهُزَلِيَّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيَبْكِي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِلَوْحَيْ الْمُصْحَفِ. فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ الْوَرَقَاتُ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: إنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهَا حَيًّا مِنْ الْيَهُودِ فَابْتَلَاهُمْ بِحِيتَانٍ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَحَلَّهَا لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَالَ: وَكَانَ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى لَا يَعْرِضَ لَهَا الطَّالِبُونَ، وَإِنَّ الْقَوْمَ اجْتَمَعُوا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا. فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ أَنْ تَأْكُلُوهَا، فَصِيدُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكُلُوهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصِيدُوهَا، أَوْ تُؤْذُوهَا أَوْ تُنَفِّرُوهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ شُرَّعًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ. فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نَأْخُذُهَا وَلَا نَقْرَبُهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَأْخُذُهَا وَلَا نَأْكُلُهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةً عَلَى إيمَانِهِمْ، وَفِرْقَةً عَلَى شَمَائِلِهِمْ، وَفِرْقَةً وَسْطَهُمْ. فَقَامَتْ الْفِرْقَةُ الْيُمْنَى فَجَعَلَتْ تَنْهَاهُمْ وَجَعَلَتْ تَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ نُحَذِّرُكُمْ بَأْسَ اللَّهِ. وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْيُسْرَى فَكَفَّتْ أَيْدِيَهَا، وَأَمْسَكَتْ أَلْسِنَتَهَا، وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْوُسْطَى فَوَثَبَتْ عَلَى السَّمَكِ تَأْخُذُهُ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ فِي مَسْخِ اللَّهِ إيَّاهُمْ قِرَدَةً.
فَهَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا اصْطَادُوا لَهَا مُحْتَالِينَ مُسْتَحِلِّينَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ، فَكَانَ أَجْوَدُهُمْ تَأْوِيلًا الَّذِي احْتَالَ عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْحِيَاضِ وَالشُّصُوصِ يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ مِنْهُ؛ إذْ ذَاكَ. وَبَعْدَهُ مَنْ بَاشَرَ إلْقَاءَهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَعْدَ السَّبْتِ. وَبَعْدَهُ مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ تَأْوِيلًا مِنْهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ.
وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] . قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ

الصفحة 27