كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

ابْنُ فُورَكٍ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ شَيْئًا وَاحِدًا وَالرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ وَقَالَ: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود: 119] وَقَالَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] .
قُلْنَا: إنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ كَذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ وَأَثْبَتَهَا فِي التَّنْزِيلِ فَقَالَ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا» أَفَتَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْمُسَمَّى لِتَعْدِيدِ الْأَسَامِي، أَوْ تَقُولُونَ الْأَسْمَاءُ تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ.
فَإِنْ قُلْت التَّسْمِيَاتُ تَتَعَدَّدُ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا هُوَ بِلُغَةٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ أَوْ عِبْرَانِيٌّ لَكِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْهُ تَكْثُرُ وَتَخْتَلِفُ، فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُ اللَّهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ سُمِّيَ قُرْآنًا، وَإِذَا قُرِئَ بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ سِمِّي تَوْرَاةً وَإِنْجِيلًا كَذَلِكَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُوصَفُ بِالْعَرَبِيَّةِ (اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَبِالْفَارِسِيَّةِ خداي بزرك وَبِالتُّرْكِيَّةِ سركوي) وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَالتَّسْمِيَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَكْثُرُ.
وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ وَمَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ بِعِبَادَاتٍ وَقُصُودٍ مُتَبَايِنَةٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَذْكُورُ الذَّاكِرِينَ بِأَذْكَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يُكْتَبُ وَيُقْرَأُ وَيُفَسَّرُ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَذْكَارٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَكِتَابَةٍ مُتَبَايِنَةٍ وَقَوْلُهُ: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] قَدْ قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُهُ كَلِمَاتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدِ الْكَلِمَاتِ وَلِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَهَا فَجَازَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْحَقِّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [الحجر: 23] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] لِأَنَّهُ مَنَابُ أُمَّةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47] وَالْمُرَادُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَتْ الْعِبَارَاتُ وَالدَّلَالَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَفْهُومَاتِ مَعَانِي كَلَامِهِ:

الصفحة 568