كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا فِي بَاطِنِهِ، فَإِنَّ السَّرَائِرَ لَدَيْهِ بَادِيَةٌ، وَالسِّرَّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ وَجْهِهِ عَنْ جَلَالِهِ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا مُوَافِيًا لِنِعَمِهِ، وَمُكَافِيًا لِمَزِيدِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ اسْتِعَانَةَ مُخْلِصٍ فِي تَوَكُّلِهِ صَادِقٍ فِي تَوْحِيدِهِ، وَأَسْتَهْدِيهِ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِهِ أَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ مَنْ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ فِي صُدُورِهِ وَوُرُودِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْأَنَامِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الصَّفْوَةِ الْكِرَامِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامًا بَاقِيًا بِبَقَاءِ دَارِ السَّلَامِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَهَدَى بِهِ أُمَّتَهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حَالٍ مُفْتَقِرًا إلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلَى غَيْرِ الْهِدَايَةِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَأُمُورٍ هُدِيَ إلَى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا، أَوْ هُدِيَ إلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدًى، وَأُمُورٍ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْهِدَايَةِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي، وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهِدَايَةِ فِيهَا، وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ، إلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ، فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ فِي أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ مُغَايِرُونَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " الْيَهُودِ " وَالضَّالِّينَ " النَّصَارَى ".
وَكَانَ الرَّسُولُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ سُلُوكَ سَبِيلِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، وَيَلْعَنُهُمْ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَالِ. وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ بِالِاحْتِيَالِ لِعِلْمِهِ بِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ.
وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا فِي مُدَارَسَةِ الْفِقْهِ إلَى مَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ، وَبَيَّنَ مَا

الصفحة 6