كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

فَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ عَرَضٌ.
ثُمَّ قَالُوا فِي الْحَيَاةِ وَنَحْوِهَا: هِيَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ إذْ الْعَرَضُ هُوَ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَالصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ بَاقِيَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ الْعَرَضُ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ هُوَ فَرْقٌ بِدَعْوَى وَتَحَكُّمٍ، فَإِنَّ الصِّفَاتِ فِي الْمَخْلُوقِ لَا تَبْقَى أَيْضًا زَمَانَيْنِ عِنْدَهُمْ فَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ صِفَةً أَوْ عَرَضًا لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ، لَكِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَةَ الْخَالِقِ تَبْقَى فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْعَرَضُ الْقَائِمُ بِالْمَخْلُوقِ لَا يَبْقَى وَالْقَائِمُ بِالْخَالِقِ بَاقٍ. هَذَا إنْ صَحَّ فَقَوْلُهُمْ إنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ لَا تَبْقَى فَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ يُرَى كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنْ غَيْرِ مُوَاجَهَةٍ وَلَا مُعَايَنَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يُرَى حَتَّى الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الْقَائِمَ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ يَكُونُ أَمْرًا بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهْيًا عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَخَبَرًا بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَهُوَ الْإِنْجِيلُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُسْمَعُ بِالْأُذُنِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ السَّمْعَ عِنْدَهُ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ.
وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ لَا يُسْمَعُ بِالْأُذُنِ لَكِنْ بِلَطِيفَةٍ جُعِلَتْ فِي قَلْبِهِ فَجَعَلُوا السَّمْعَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى غَيْرِ مُوسَى وَبَيْنَ تَكْلِيمِ مُوسَى، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ لَا تَقُومُ إلَّا بِتَحَيُّزٍ.
وَقَالُوا: إنَّ الْقُدْرَةَ وَالْحَيَاةَ وَنَحْوَهُمَا يَقُومُ بِقَدِيمٍ غَيْرِ مُتَحَيِّزٍ، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَكَذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ قِيَامَ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ بِالْمَحِلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا.
ثُمَّ قَالُوا: إنَّ الصِّفَاتِ قَائِمَةٌ بِالرَّبِّ وَلَا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَكَذَلِكَ فِي احْتِجَاجِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ. مَخْلُوقًا لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْحَوَادِثِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ لَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَكَانَ يَكُونُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، فَإِنَّ الصِّفَةَ إذَا

الصفحة 626