كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

يَقِينِيَّةٍ لَا يُعْلَمُ بِمِثْلِهَا مَعَادُ الْأَبْدَانِ، فَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمُبَايَنَتِهِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا خَالَفَكُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ، بَلْ وَالْفَلَاسِفَةُ وَلِهَذَا يُوجَدُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مُوَافَقَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي بَعْضِ مَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَا يُوجَدُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إنْكَارُ سَمَاعِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ لِلْأَصْوَاتِ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إنْكَارُ الْمِعْرَاجِ بِالْبَدَنِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَا يُوجَدُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوَافَقَتُكُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، بَلْ وَلَا عَلَى مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ الْجِسْمِ وَمُلَازِمِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي مَسْأَلَةِ إنْكَارِ الرُّؤْيَةِ فَمَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَأَوَّلُوهَا وَالْمَقَايِيسِ الَّتِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِمَّا مَعَكُمْ فِي إنْكَارِ مُبَايَنَةِ اللَّهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ.
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ تَقُولُونَ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، فَتُنْكِرُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَتَقُولُونَ بِمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي جَعْلِهِمْ الْمِعْرَاجَ مَنَامًا أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْكُمْ حَيْثُ قُلْتُمْ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَقُلْتُمْ مَعَ هَذَا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْرَجُ إلَيْهِ، فَهَذَا النَّفْيُ أَنْتُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَهُمْ امْتَازُوا بِقَوْلِهِمْ الْمِعْرَاجُ مَنَامًا، وَهُوَ قَوْلٌ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَنْتُمْ امْتَزْتُمْ بِقَوْلِكُمْ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ. ثُمَّ إنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُخَالَفَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ، وَوَافَقْتُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى إظْهَارِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْبِدَعِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا الْجَهْمِيَّةُ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي عَصْرِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى امْتَحَنُوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُ بِذَلِكَ.

الصفحة 629