كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَوَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى نَفْيِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ الَّذِي مَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى إظْهَارِهِ فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الشَّنْعَاءَ وَالْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ يَكُنْ يُظْهِرُهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْعَامَّةِ، وَلَا يَدْعُو عُمُومَ النَّاسِ إلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ ذَلِكَ بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ فَمُوَافَقَتُكُمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ أَعْظَمُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ تُوهِمُ الْمُسْتَمِعَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَفِيهِ مَا يُوهِمُ بَعْضَ النَّاسِ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ وَلَكِنْ يُعَارِضُونَ آيَاتِ الْعُلُوِّ الْكَثِيرَةَ الصَّرِيحَةَ بِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا، فَلَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ عَلَى هَذَا النَّفْيِ آيَةٌ تُشْعِرُ بِمَذْهَبِكُمْ، فَضْلًا مِنْ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا، وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ وَلَا تَابِعٍ وَلَا إمَامٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِأَثَرٍ مَكْذُوبٍ كَمَا تَذْكُرُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أَيَّنَ الْأَيْنَ لَا يُقَالُ لَهُ أَيْنَ، وَهَذَا مِنْ الْكَذِبِ عَلَى عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا إسْنَادَ لَهُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا حُجَّةَ فِيهِ لَكُمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا لَيْسَ فِي نَفْسِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ فِي فِطَرِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْإِقْرَارُ بِعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى أَوْ يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ ذَاكَ، فَوَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ اتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا عَلَى تَضْلِيلِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ قَدْ كَفَّرُوهُمْ وَقَالُوا فِيهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَخْرَجُوهُمْ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَقَالُوا: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ.
فَكُنْتُمْ فِيمَا وَافَقْتُمْ فِيهِ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ هُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِيمَانِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

الصفحة 630