كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

أَحَدُهُمَا: تَسَلُّطُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إثْبَاتُكُمْ لِلرُّؤْيَةِ وَلِكَوْنِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الْعَقْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، وَانْفَرَدْتُمْ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ بِمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ، وَقَوِيَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ رَدَدْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى قِيلَ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ حَجَرَهُمْ فِي قِمَعِ السِّمْسِمَةِ فَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِمَا أَبْدَاهُ مِنْ تَنَاقُضِ أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ خَبِيرًا بِمَذَاهِبِهِمْ، إذْ كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ أُصُولَ الْمُعْتَزِلَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا انْتَقِلْ إلَى طَرِيقَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بْنِ كِلَابٍ وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ وَمُبَايِنَةَ اللَّهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَيَجْعَلُ الْعُلُوَّ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، فَكَانَ الْأَشْعَرِيُّ لِخِبْرَتِهِ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ أَظْهَرَ مِنْ تَنَاقُضِهَا وَفَسَادِهَا مَا قَمَعَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ، وَبِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ تَنَاقُضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ، صَارَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْقَدْرِ مَا صَارَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ قَصُرَ عَنْ طَرِيقَةِ ابْنِ كِلَابٍ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ ابْنَ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ فَنَفَيْتُمْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ، وَنَفَيْتُمْ الْعُلُوَّ وَخِيَارُكُمْ يَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ، مَعَ أَنَّ ابْنَ كِلَابٍ كَانَ مُبْتَدِعًا عِنْدَ السَّلَفِ بِمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ؟ وَفِي إنْكَارِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ.
ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ انْقَمَعُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ طَمِعُوا وَقَوُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِمُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ عَلَى أُصُولِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَعْزِيًّا لِفُضَلَائِهِمْ بِلُزُومِ مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَهِمَ مَذْهَبَكُمْ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَاسِدًا وَنَشَأَ الْفَسَادُ.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْفُضَلَاءَ إذَا تَدَبَّرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِكُمْ الَّذِي أَظْهَرْتُمْ فِيهِ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَدُوكُمْ قَرِيبِينَ مِنْهُمْ أَوْ مُوَافِقِينَ لَهُمْ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّكُمْ تَتَظَاهَرُونَ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ تُفَسِّرُونَهَا بِمَا لَا يُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَيَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فِي الْأَشْعَرِيِّ: إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ.

الصفحة 631