كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَحَلٍّ كَلَامًا لَهُ فَيَكُونُ إنْطَاقُهُ لِلْجُلُودِ كَلَامًا لَهُ بَلْ يَكُونُ إنْطَاقُهُ لِكُلِّ نَاطِقٍ كَلَامًا لَهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنَظْمُهُ.
لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ أَجْوَدُ مِنْكُمْ حَيْثُ سَمَّوْا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ كَلَامَ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُهُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ كَلَامًا مَجَازًا؛ وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْكُمْ حَقِيقَةً وَجَعَلَ الْكَلَامَ مُشْتَرَكًا كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ اُنْتُقِضَتْ قَاعِدَتُهُ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْكَلَامِ مَنْ قَامَ بِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا؛ فَالرَّجُلُ إذَا بَلَّغَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» كَانَ قَدْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَنْشَدَ شَعْرَ شَاعِرٍ كَامْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قَالَ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ
كَانَ هَذَا الشَّعْرُ شَعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُبْتَدِئًا آمِرًا بِأَمْرِهِ وَمُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَمُؤَلِّفًا حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَغَيْرُهُ إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ لِلْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا لِلْمُبَلِّغِ.
وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ، وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْأَوَّلِ وَسَمَاعِهِ مِنْ الثَّانِي؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ؛ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ الثَّانِي حِكَايَةً لِكَلَامِ الْأَوَّلِ.

الصفحة 633