كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

فَجَعَلْتُمْ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ اللَّهِ فِيهَا، وَقُلْتُمْ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ هُوَ اسْمُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَكْتُبُ فِي الْمُصْحَفِ اسْمَهُ فَأَسْمَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ، لَا أَنَّ ذَاتَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ.
وَالشَّيْءُ لِوُجُودِهِ أَرْبَعَةٌ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ، وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ، وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ، فَالْأَعْيَانُ لَهَا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى، ثُمَّ يُعْلَمُ بِالْقُلُوبِ، ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ ثُمَّ يُكْتَبُ اللَّفْظُ؛ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَهُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ.
فَأَيْنَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْكَلَامَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي الْكِتَابِ، وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ، وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْعِبَارَةَ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَهُوَ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ، فَقَدْ أَضَافَهُ فِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ، وَفِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ مُحَمَّدٌ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِبَارَتَهَا إنْ أَحْدَثَهَا جِبْرِيلُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ أَحْدَثَهَا، وَإِنْ أَحْدَثَهَا مُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ جِبْرِيلُ أَحْدَثَهَا؛ فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ وَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَابْتَدَأَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَقَوْلُ رَسُولٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ،

الصفحة 637