كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

فَذَكَرَ اسْمَ الرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] .
«وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ، وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا تَقُولُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَحْدَثَهُ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّ تِلَاوَتَهُمَا لَهُ كَتِلَاوَتِنَا لَهُ؛ وَإِنْ قُلْتُمْ أَضَافَهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ تَلَاهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَطَاهِرٍ وَجُنُبٍ، حَتَّى إذَا قَرَأَهُ الْكَافِرُ يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلًا لَهُ عَلَى قَوْلِكُمْ؛ فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إذْ هُوَ عَلَى أَصْلِكُمْ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَقَوْلُ فَاجِرٍ لَئِيمٍ.
وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ فِي الْهَوَاءِ، فَاحْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ مِنْكُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مُحْدَثٌ، وَلَكِنْ زَادَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ بِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَهُ إمَّا جِبْرِيلُ وَإِمَّا مُحَمَّدٌ.
وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ مُحْدَثٌ فِي الْهَوَاءِ صِرْتُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَضْتُمْ اسْتِدْلَالَكُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ، وَقَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ بِإِضَافَتِهِ إلَى الرَّسُولِ الْآخَرِ، وَكُنْتُمْ شَرًّا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: أَحْدَثَهُ اللَّهُ، وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَلَاهُ فَقَدْ أَحْدَثَهُ فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ قَوْلًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ النَّاسِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَكَانَ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَسْمَعُونَهُ كَلَامَ النَّاسِ عِنْدَكُمْ لَا كَلَامَ اللَّهِ.

الصفحة 638