كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 101 - 102] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] ، وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] ، {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْهُ بَلْ مِنْ الْهَوَاءِ.
وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ قَابَلْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ تَقَابُلَ التَّضَادِّ حَتَّى رَدَدْتُمْ بِدْعَتَهُمْ بِبِدَعٍ تَكَادُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ هِيَ مِنْ وَجْهٍ مِنْهَا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا الْإِيمَانَ اسْمًا مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.
وَقَالُوا: إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، وَقَالُوا: إنَّ الْفُسَّاقَ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَخِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ لِلسَّلَفِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ فِي الْإِرْجَاءِ وَالْجَبْرِ فَقُلْتُمْ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. ثُمَّ إنَّكُمْ قُلْتُمْ: إنَّا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَوَقَفْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ جُمْلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَأُولَئِكَ قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا كُلُّ فَاسِقٍ، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ: لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا فَاسِقٌ أَمْ لَا، فَتَقَابَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَقَوْلُكُمْ أَعْظَمُ بِدْعَةً مِنْ قَوْلِهِمْ، وَأَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.

الصفحة 639