كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَعَلَى قَوْلِكُمْ: لَا نَعْلَمُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا أَمْ لَا، وَقَوْلُكُمْ إلَى إفْسَادِ الشَّرِيعَةِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، أَوْ مُرِيدًا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، بَلْ الْإِرَادَةُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَهُوَ لَا يُحِبُّ وَيَرْضَى إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالَ، فَصِرْتُمْ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، وَقُلْتُمْ: إنَّ الْإِرَادَةَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، لَكِنْ قُلْتُمْ وَهُوَ أَرَادَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا رَاضِيًا لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.
وَتَأَوَّلْتُمْ قَوْلَهُ: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ يَعْنِي الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، إذْ عِنْدَكُمْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ رَضِيَهُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَا يَرْضَاهُ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ عِنْدَكُمْ مِنْ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا كُفْرَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ الْإِيمَانَ.
وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: {لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] أَيْ لَا يُحِبُّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْكُمْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا أَوْ لَا يَرْضَاهُ دِينًا، فَهَذَا أَقْرَبُ لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكُمْ لَا يُرِيدُهُ دِينًا وَلَا يَشَاؤُهُ دِينًا فَيَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يُقَالَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيَرْضَاهُ، أَيْ يُحِبُّهُ فَسَادًا وَيَرْضَاهُ فَسَادًا كَمَا أَرَادَهُ فَسَادًا.
وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مَا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْكُفَّارِ غَيْرَ مَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ اللُّطْفِ.
وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ، ثُمَّ قُلْتُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا عُلِمَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ فَاعِلًا فَقَطْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ أَصْلًا فَخَالَفْتُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]

الصفحة 640